مجلة لوغوس

جاك دريدا وميشال دو سارتو: الافتتان بالعرفان ووعود الكتابة
Free

جاك دريدا وميشال دو سارتو: الافتتان بالعرفان ووعود الكتابة

  • 00:00:00

نفى دريدا انتماءه لأي ذوق عرفاني وكان يعتبر أن ثمة ضرورة تدبّر إرادته في الكتابة. ميشال دو سارتو، مؤرخ العرفان المسيحي، جعل من «العرفاني » نموذج )براديغم( الدراسات الأنثروبولوجية والمابعد حداثية، التي تستند على البحث عن التفاصيل ووفرة المجازات، وهما قيمتان تدبّران أيضاً التفكيك الدريدي: «إن العرفاني هو الذي لا ينفك عن السير والذي، بتيقّنه بالأمر المسلوب منه، يعرف في كل مكان ومن كل موضوع أنه ليس هذا، وأنه لا يمكن الإقامة هنا ولا الاكتفاء بهذا. الرغبة تصنع الإسراف. فهي تتجاوز وتَعبُ وتفقد الأمكنة، تقود نحو البعيد، نحو مكان آخر.

لا تسكن في أي مكان، إنها مسكونة ». كانت العلاقة بين بطليْ الاختلاف، الأول في الفلسفة، والثاني في الثيولوجيا، غير مباشرة. أشار دو سارتو إلى دريدا في العديد من كتاباته، وخصّص له دريدا مقالاً عنوانه «عدد ال »بلى »» ، المنشور مع مجموع مقالات حول ميشال دو سارتو تحت إشراف لوس جيار، سنة بعد وفاة صاحب «الحكاية العرفانية ». يُعتبر مقال دريدا بمنزلة رمز، كإجلال وتقدير، للتعبير عن الاهتمام الذي كان يوليه المفكريْن للكتابة: «مثلما أنني لا أنسى ما كتبه ميشال دو سارتو حول الكتابة في النص العرفاني: إنه أيضاً، من أوله إلى آخره، عبارة عن وعد .»

1- المقاربات الثلاث للعرفان

كلمة «عرفان » لا يمكنها أن تُختزَل إلى البُعد الديني. إنها كلمة واسعة ومرنة وأقل مأسسةً وكهنوتاً. إذا أردنا

تحديد كلمة «عرفان »، فبأية عبارات؟ تحويل الصفة «عرفاني » إلى الإسم «العرفان » هو تحويل حديث النشأة ويعود أساساً إلى منعطف القرنين 16 و 17 م كما أوضح ميشال دو سارتو بقوله: «قمتُ بتحليل علامة ألسنية لهذا التطوّر، وهو صيرورة العرفان اسماً في القرن السادس عشر 4» . يعود هذا التحوُّل إلى العصور الحديثة: من «العرفاني » إلى «العرفان »، ونقصد بذلك الانتقال من اللاهوت العرفاني إلى العرفان بوصفه علماً مستقلاً وقائماً بذاته 5.

هذا التمييز مهم وحاسم، لأن كلمة «عرفان » هي قول )منحدر عن الجذر اللاتيني «فاري fari » والذي أعطى الحكاية fable (، هذا القول الذي يبحث عن التقيُّد بعلم الذي هو معقولية لها قواعد في الاشتغال والاستعمال. كما تشير لوس جيار ) Luce Giard (، لا ينبغي فهم العلم هنا «بالمعنى المعاصر للكلمة، بوصفه مجموعة منظَّمة من المعارف التي ترتبط بوقائع تخضع إلى قوانين موضوعية ». وتضيف: «في لغة القرنين السادس والسابع عشر، يدل العلم على شكل من العقلانية وليس مدوَّنة نظرية تحكم موضوعات المعرفة 6» . اتخذ هذا العلم تسمية «العلم التجريبي »

من طرف أحد أشهر متصوفة القرن السابع عشر وهو جون جوزيف سورين ) Jean-Joseph Surin ( الذي خصَّص له دو سارتو تحقيقاً نقدياً لأعماله وقراءة واسعة ومتبحّرة في كتاباته.

لقد كان غرض دو سارتو هو نقل العرفان نحو موطنه الطبيعي والأصلي وربطه بالحدث، وبشكل أعم بالتاريخ.

عبَّ عن ذلك في حوار له مع ميراي سيفالي ) « :)Mireille Cifali إن السؤال المبدئي يخص الجدّية التي نضفيها على علاقة التجربة العرفانية بالتاريخ. إنه سؤال امتحاني لأن بالمقارنة مع كل العرفانيين الذين درست أعمالهم، الوجد أو الشطحات ينبغي إرجاعها إلى الواقع «المشترك »: العودة إلى اجتماعية يومية هي معيار التجربة العرفانية 7» . يدعّم دو سارتو هذه الملاحظة في مقاله «العرفان » المنشور في «الموسوعة الشاملة » عندما يكتب: «مهما كان موقفنا من العرفان، حتى ولو تعرَّفنا فيه على بروز حقيقة كونية ومطلقة، لا يمكننا معالجته سوى تبعاً لسياق ثقافي وتاريخي محدَّد 8» .

إذا كان العرفان رهين وضعية ثقافية وتاريخية معيَّنة، فإن الأشكال التي يرتبط بها أو يتجسّد فيها متعدّدة

الألوان، وقد حدّد جاك لو بران ) Jacques Le Brun ( في ثلاثة أشكال:

1- التراث «النفساني » الذي كان يرى في العرفان ظاهرة شاذَّة تعبّ عن اضطراب نفسي يؤدّي إلى الإفراط والكآبة والسوداوية. تعزَّز هذا التراث النفساني إلى غاية القرن التاسع عشر عندما أصبح العلم الوضعي سمة بارزة في المناهج العلمية المطبَّقة.

2- التصوُّر «الأقيانوسي » الذي ابتكره رومان رولاند ) Romain Rolland ( في مراسلاته مع فرويد حيث استحضر دو سارتو بعض المقاطع المهمة منها: «بالمقارنة مع التحليل الذي قام به فرويد للدين في كتابه «مستقبل وهم ») 1926 (، فإن رومان رولاند عارضه بفكرة «الشعور الديني الذي يختلف عن كل الأديان المعروفة « :» إنه الشعور بالأزل « ،» شعور أقيانوسي » الذي يمكن وصفه كاحتكاك أو كحدث )رسالة إلى فرويد بتاريخ 5 ديسمبر 9 »)1927 . يبُرز هذا التصوُّر، سليل أبحاث يونغ ) Jung (، المباحث الأساسية المرتبطة بالمبهم ) le vague ( وبالموجة أيضاً ) )la vagueالتي يغرق فيها العرفاني، ولأن معظم الاستعارات بشأن التجربة العرفانية تُوظَّف فيها كلمات البحر والعُمق والموجة والمبهم والغامض، وكل ما يدل على اللانهائي وما لا يمكن القبض عليه.

3- التراث «الكتابي » الذي يرى في العرفان مجموعة من النصوص التي تعبّ عن تجربة معيَّنة. افتتح جون باروزي Jean Baruzi( ( هذه الفكرة في كتابه «القديس يوحنا الصليبي ومشكل التجربة العرفانية »، والتي سيأخذ بها دو سارتو في مقاربته لهذه التجربة في كتابه «الحكاية العرفانية ». العرفان بوصفه كتابة، هذا هو الشيء الجديد في كتابات القرن العشرين حول العرفان بعد هيمنة البُعدين النفساني والأقيانوسي. يقول لوبران: «بالنسبة لجون باروزي، بدلاً من أن تنغمس في موجات الأقيانوسي أو في التجربة اللاعقلانية للعجيب والخارق، فإن العرفان يكشف عن فكر، وهو «الفكر العرفاني »، وعن فلسفة صارمة هي التي نكشف عنها في صرامة الكتابة ذاتها ]...[ يتعلق الأمر بتراث «كتابي » كما أسميه، بمعنى تراث يَعتبر العرفان كتجربة في اللغة والكتابة، وهذا التراث هو الذي مال إليه دو سارتو في أبحاثه 10» .

تحاول مبادرة دو سارتو إلى التفكير في التاريخ وفي العرفان على حد سواء حيث تكون الكتابة هي عامل الوصل.

فالتاريخ يفكّر في الغياب من باب «الحدث المجاور للحدث »، بالتفكير في التسلسل الزمني الذي تتخلَّله الثغرات أو القطيعات؛ بينما يفكّر العرفان في الغياب تحت نمط «الحدث داخل الحدث »، باستحضار الغائب في اللحظة الراهنة أو البدء هنا والآن. غير أن هذا البدء مفقود إلى غير رجعة، لكنه يجعل القول والكتابة العرفانيين أمراً ممكناً، ويجعل القبض على موضوعهما أمراً مستحيلاً: «ذلكم هو شكل الرغبة، يقول دو سارتو. فالرغبة ترتبط بهذا التاريخ الطويل للواحد ) l’Unique ( حيث كان الأصل والتحوُّل، في أشكالهما التوحيدية، يؤرقان فرويد. شيء واحد ينقص، وكل شيء ينقص. يقوم هذا البدء الجديد بقيادة سلسلة من التيهان والجولان. إننا مرضى بالغياب لأننا مرضى بالواحد 11» .

إذا عمل دو سارتو على تحديد العرفان انطلاقاً من فرضياته التاريخية بتفسير نشأة العلم الصوفي في منعطف

الحداثة الغربية، فمن المفيد العودة إلى «العرفاني » عُنصراً كامناً في كل تجربة، أو العرفاني بوصفه «أيوناً » عابراً للأزمنة، رغم أن هذه الفكرة لا يستسيغها دو سارتو، بمعنى التحرُّر من التاريخ لعبور أزمنته نحو شيء كوني ينطبق على كل التجارب رغم اختلافاتها الجغرافية والنظرية. سنتكلم إذن عن العرفاني الذي يرتبط بشكل وطيد بالسرّي أو الباطني والذي ينظم، خُلسةً، بعض كتابات دريدا، حتى وإن رفض دريدا مَيْلَه نحو أي ذوق عرفاني. لكن ليس العرفان بالمعنى المبتذل، وإنما العرفان الذي له بالكتابة شُحنة وشُجنة، له رابط وثيق وموثوق فيه، والذي ينطوي على قيم السماع ) l’écoute, H.ren ( والسر ) .)le secret

2- العرفان الكتابي: كيف نكتب «المسكوت عنه ؟»

المسكوت عنه ) l’ineffable ( يقصد الكلمة الممنوعة أو المستحيلة. لكن هل يمكن كتابة الممنوع والمستحيل؟

إن التجربة العرفانية المفتوحة على القول لم تفقد أبداً الكلمات لتحدّد موضوعها الصعب، وتقوم بتثبيته في الكتابة النثرية أو الشعرية. بل هناك وفرة في المجازات وانقلاب في الكتابات، تارة كتابة ذات إطناب ) ،)hyperbolique كتابة اكتئاب ) mélancolique ( كما نجد ذلك في أشعار الحلاج في الإسلام أو إنياسيو دي لويولا في المسيحية؛ وتارةً أخرى كتابة نسقية ومفهومية مع الأنساق الميتافيزيقية الكبرى عند ابن عربي في الإسلام ونيكولا الكوزي ) Nicolas de Cues ( في المسيحية. إن المسكوت عنه يدعو إلى الكتابة عندما يكون، من أوَّل وهلة، مصاب بالدهشة: الصمت.

فالكتابة تخط تجربة أو شهادة ) témoignage (. عندما يصمت القول، فإن العين تطبع شذرات تصبح بمرور الوقت عبارة عن ذاكرة التي تمنح للكتابة مادة الاستطراد والإطناب والمبالغة.

لا شيء يُبرز هذه العلاقة بين التجربة والكتابة سوى نص مقتضب لميشال دو سارتو عنوانه «كتابات 12» . يتساءل دو سارتو في نصه هذا عن الدافع نحو الكتابة والغرض من الكتابة: «لماذا نكتب؟ كي لا نزول. مقاومة موت النشوة الإدراكية 13» . إذا كان دو سارتو يستحضر هنا تجربة خاصة، تجربته في الكتابة، فهي لا تختلف في جوهرها عن التجارب العرفانية التي كان متعوّداً عليها. عندما يستحضر الكتابة كمقاومة النسيان، فهو يقوم بأقلمة مفهوم العرفان الذي وضعه على شرطه الإنساني الخاص. لنقرأ مفهومه للعرفان، لأنه سيساعدنا لاحقاً في معرفة إذا كان ينطبق على دريدا أيضاً. يقول دو سارتو: «إن العرفاني هو الذي لا ينفك عن السير والذي بإدراكه بالشيء الذي ينقصه، يعرف من كل مكان ومن كل موضوع بأنه ليس هذا، وأنه لا يمكن الإقامة هنا ولا الاكتفاء بهذا 14» .

عدم الإقامة هنا وعدم الاكتفاء بهذا، هو تعبير يحدّد الكلمات التي اختارها دو سارتو في وصف تجربته في

الكتابة: «كان الطارئ بالنسبة إليّ «نسياناً » بالمقارنة مع اليومي، وبعدها قاومتُ بلا جدوى ضد كل أشكال النسيان، وعدم قدرتي على القعود هنا أو الاحتفاظ بهذا 15» . عندما يستحضر تجربته في الكتابة أو بالأحرى البُعد العرفاني لكتابته، فدائماً من مبدأ إمكانية اللاممكن أو الظهور المفاجئ للحدث. هناك طبعاً الكتابة المخطِّطة والمنظِّمة التي سماها في موضع آخر من كتاباته «الكتابة الاستراتيجية »، تلك التي تحيط بموضوع المعرفة في قوالب محكَّمة؛ لكن ثمة كتابة فارَّة، مجازية وحُرَّة، سماها دو سارتو «ممارسة في الإزاحة »، والتي سماها في مَواطن أخرى من كتاباته «الكتابة التكتيكية .»

تحمل ممارسة الكتابة عند دو سارتو على علامات عرفانية تقوم أساساً على السفر، «حركة في خط الطريق ،» وأيضاً على العُنصر الكفاحي الذي هو علة صراع العرفاني مع ذاته «بلا هدنة 16» . موضوع العرفاني مفقود أو هو الفقدان في حد ذاته، هذا الفقدان الذي يجعل ممارسة الكتابة أمراً ممكناً: «هل يمكن أن نكون هذه الكتابة حيث يتكلم الغياب المعطّش؛ هل تقوم أحسن من مضامينها عن دوران وتوقف وعبور التفكير المسكون بغياب الحضور 17» .

ليس الغياب موضوع الكتابة المباشر، ولكنه، فيما وراء التقسيمات والعقلانيات، هو الدافع والمحفّز، وعلَّة الكتابة، أو القبلي الأصلي الذي سيتَّضح عند دريدا مع كلمة «نعم oui( » ( التي خصَّص لها شرحاً وافياً في قراءته لدو سارتو، وسنعود إلى ذلك في محله.

3- دريدا عرفاني؟ بين الرغبة والضرورة

هل يمكن للتفكيك والعرفان أن يكونا متوافقين؟ في كتابه «دريدا والثيولوجيا »، استطاع فرانسوا نولت ) François Nault ( توضيح المفترضات اللاهوتية عند دريدا، أو ما سماه «بقايا لاهوتية 18» ، متوارية، تنظّم النص الدريدي مثلما أن التفكيك يعمل على استثمار اقتصاد النص اللاهوتي. هل يمكن الحديث عن تقاطع )كياسم( بينهما حيث يتداخل الثيولوجي والتفكيكي في حقل التفكير نفسه؟ تعود المباحث الدينية عند دريدا بشكل بارز أو خفي. لكن أكثر من الديني، هل هناك مفترضاً عرفانياً في نصوصه؟ في مداخلة قيّمة عنوانها «غيرية الآخر بشكل آخر: على خطى جاك دريدا 19» ، قام فرنسيس غيبال بالإشارة إلى البُعد العرفاني الممكن اكتشافه عند دريدا. يقول: «إذا كان بالإمكان إيجاد صبغة «عرفانية »، فبشرط تحديد أنه عرفان المنطلق والهجرة ) exode (، وليس عرفان الحلول والعودة إلى الواحد ،» معتمداً في ذلك على تعريف دو سارتو للعرفان الذي رأيناه من قبل. فالعرفان كما جاء في تحديد دو سارتو يشتمل على طريقة دريدا في الرؤية والتقصي، ويمكن تعداد بعض الجوانب العرفانية في الهجرة والتَشتُّت )السفر أو المنفى(، في الرغبة )أو النقصان والفقدان(، وأخيراً في ما لا يمكن تسميته أو المسكوت عنه في شكل قرار غير حاسم: «ليس هذا .)ce n’est pas ça( »

استطاعت الأسئلة والأجوبة على مداخلة فرنسيس غيبال أن تدقّق هذا النزوع العرفاني لدى دريدا، لكن دائماً بتحفُّظ دريدا بإلصاقه بأي نوع من العرفان، حيث قدَّم ملاحظة هامة بقوله: «طبعاً بلا شك هناك الافتتان بالغياب.

ولا أصف هذا الافتتان أو الولع بكلمات سيكولوجية أو وجودية، ولكن يمكن فعل ذلك. إن الشيء الذي يشبه الافتتان في عملية الكتابة أو في عملية التفكير، هو الطور أو النمط الأساس لدافع الإثبات 20» . وفي تدخُّل آخر، يعبّ دريدا عن رفضه لكل نزوع عرفاني بقوله: «أقول شيئاً آخر بالنسبة للعرفان. إذا أخذنا هذه الكلمة في معناها المبتذل، في شكل تجربة في الحضور والاتصال والحدس، أقول بأني أبعد ما يكون عن العرفان وأقل ميلاً نحو العرفان حتى وإن كنتُ أحلم بذلك ». لكنه يُدرج فارقاً طفيفاً وأساسياً عندما يقول: «لا أقول بأنه ليس لديَّ ذوق عرفاني، ولكن ثمة ضرورة تحكم حياتي في مجملها هي غريبة تماماً عن العرفان في دلالته المبتذلة. لا أتذكَّر حرفياً تعريف دو سارتو للعرفان، ولكن عندما سمعته، قلتُ في نفسي: ولم لا؟ وسنكون كثيرون على قوله أيضاً والانخراط فيه 21» .

لِم لا إذن؟ ما دام دريدا يقصد العرفان في دلالته المبتذلة التي هو بعيد عنها، وربما هو قريب من الدلالة التي وضعها دو سارتو. التمييز الذي أقامه دريدا يفصل بشكل حاسم بين الرغبة والضرورة. فهو يقول أيضاً بأن هناك «حرباً شعواء » بينهما. لكن، أليس في كل حرب أو صراع تحالف ضمني في شكل تواطؤ الأضداد تبعاً لفكرة نيكولا الكوزي العريقة حول «تواقت النقيضين Coincidentia oppositorum( » (؟ لا نتكلم هنا، بطبيعة الحال، عن وحدة متعالية تستغرق الاختلافات بتذويبها، ولكن بتحالف يجعل النقائض تحتفظ بفرديتها وتعيُّنها، وهذا يقترب من المخطط المضاد للهيغلية عند دريدا وهو الاختلاف المرجأ ) .)différance

في النقاش حول مداخلة ستانسلاس بروتون ) « )Stanislas Breton الاختلاف، العلاقة، الغيرية »، أجاب دريدا عن تساؤل غي بوتيدومانج ) Guy Petitdemange ( حول المغزى من «الحرب الشاملة » التي نعت بها دريدا الاختلاف الراديكالي بين الرغبة والضرورة، أو بين العرفان والبرهان قائلاً: «جاك دريدا، إن الشيء الذي أثار انتباهي في تدخلكم هو قولكم «بين الرغبة والضرورة هناك حرب شاملة ». إذا فهمتُ المقصود من قولكم هذا، فالضرورة عندكم هي في أصل كل فعل في التفلسف وأصل كل كتابة 22» . كانت إجابة دريدا بهذه الكلمات: «من الصعب أن نرتجل في هذه الأسئلة. أؤاخذ نفسي أنني تفوَّهتُ بكلمة حرب. في «البطاقة البريدية La carte postale( » (، استعملتُ كلمة ضرورة بالحرف الكبير Nécessité ، وكأنها إسم عَلَم، لا لأن أجعل منها شخصاً أو أمثولةً، لكن لتبيان أن الضرورة هي دائماً ضرورة شيء فريد. إنها حد قائم على توسُّع الرغبة أو عملية الامتلاك، حد يحدّده الآخر كآخر، بوصفه حامل إسم عَلَم – إنها حاملة إسم عَلَم – بوصفها مفهوماً. بوقوفي عند هذا الحد، فإنني أكتب وأحاول أو أفكر 23» .

غير أن دريدا يضع كشرط عدم إمكان الرغبة هو نفسه شرط إمكانها. فالرغبة تتواجد في هذه المفارقة كونها

تفتقد شيئاً )الرغبة بالتعريف هي فقدان manque ( وفي كونها لا تعرف التوقف )إحالة، استحالة بمعنى التحوُّل، اللانهائي، إلخ(. يقول دريدا عن نفسه بأن يكتب تحت وطأة الضرورة أو قانون الضرورة ويشبّه هذه الضرورة كاسم عَلَم له شخصه، بالمعنى نفسه الذي جعل ابن عربي من الحروف أمة من الأمم. فالضرورة هي فضاء محصور يحدد الفانتاسمات الجامحة للرغبة قصد التهديء من دافعها الملتهب. عندما كتب ابن عربي «ترجمان الأشواق »، كان ذلك تحت وطأة الحال والرغبة؛ وعندما كتب «ذخائر الأعلاق » لشرح الترجمان، كان ذلك بقلم الضرورة المفهومية لتبيان المقصود من الرموز المستعمَلة، خصوصاً وأن بعض الرموز من الترجمان كانت محط هجوم وتشنيع من طرف الفقهاء.

تفسير الرموز أملته الضرورة في وضع الحدود النظرية وتأشير الأرضيات المفهومية قصد تحويل الجسدي إلى روحي أو تبيان أن الرموز المحسوسة تحيل، في حقيقة الأمر، إلى معطيات معقولة أو متعالية.

عندما كان ابن عربي يقصد بقصيدته «الترجمان « » الأيقونة » ليحيل بها إلى شيء آخر غير الحس المبتذل، كان أعداؤه يرون فيها «الأيدولة » التي لا تحيل إلى شيء آخر سوى إلى ماديتها الفظة. يعود ستانسلاس بروتون إلى ملاحظة دريدا قصد الفصل في بعض الأشياء الملتبسة بقوله: «أعتقد أنني فهمتُ بأن ثمة نوعين من العرفان: «العرفان التوحيدي hénologique( » ( )سليل الأفلاطونية المحدثة ويغلب على روحانية المعلم إكهرت(؛ و »العرفان التشتيتي » diasporique( (. أعتقد أن هذا العرفان التشتيتي، أقل إقامة وأكثر تيهاً، هو الذي كان يقصده دو سارتو في كتابه «الحكاية العرفانية 24»» . هذا التمييز بين العرفانين حاسم ويسهّل عملية وضع دريدا في العرفان التشتيتي، العرفان البيني أو الفاصل، في اخلاف راديكالي عن العرفان التوحيدي، المختزل للفروقات والاختلافات، والشمولي.

إنها الملاحظة نفسها التي وجهتها إليزابيت دو فونتني ) Elisabeth de Fontenay ( بقولها: «أعتقد جاك أنك «عرفاني » أكثر مما تظن. كما ب يَّ ستانسلاس بروتون، العرفان له علاقة باللاشيء، الصحراء، الغياب ]...[ عمل دريدا هو مل تجربة: عمل حول اللاشيء، حول الغياب، ولكن حول المؤسسة أيضاً: إنك أكبر مؤسس، أكبر مشكّل... 25» . تبقى المشكلة في معرفة كيف يمكن تأويل هذا التناقض الظاهري ) oxymoron (: الغياب-المؤسسة، الصحراء-التشكيل الذي تتحدث عنه إليزابيت دو فونتني. هل يمكن أن نؤسّس في الفراغ؟ هل نشكّل في الغياب أو في اللاشيء؟ ربما الكلمة التي تنطبق على هذا التأسيس الأصلي الذي يتيح ) permission, permissif ( تشكيلات متنوّعة، مثلما يتيح النص وجود تأويلات متصارعة، هو الأثر ) la trace ( الذي هو أيضاً ذو طبيعة أكسيمورية )حضور-غياب( أو أيضاً الشبح أو الطيف وكل ما يفيد «البينية »، بين الأشياء.

«4- نعم، بلا شك »: دريدا قارئاً دو سارتو، الدَيْن والوعد.

في مقال كتبه دريدا حول دو سارتو كقراءة في كتابه «الحكاية العرفانية »، شدَّد فيه على القبول الأصلي الذي

يجعل كلمة «نعم » ممكنة 26 ؛ تلك الكلمة التي اكتشفها دو سارتو عن العرفاني أنجلوس سيلسيوس ) Angelus Silesius ( من القرن السابع عشر الذي شقَّ الإسم «يهوه Jahvé( » ( إلى قسمين واستخلاص «نعم Ja( » ( من هذا الإسم. فحول الكلمة «نعم »، قدَّم دريدا شرحاً مكثَّفاً في قراءته لدو سارتو، كما فعل أيضاً في قراءته لهايدغر في كتابه «هايدغر والسؤال ». يقول فرانسوا نولت: «اكتشف دريدا عن هايدغر «منطقة يكون فيها القبول صارماً »؛ نعم، القبول أو الموافقة، هو شيء ضروري قبل كل سؤال، بل وقبل كل «خطاب نقدي » )فلسفي، لاهوتي وحتى علمي( 27» .

فالكلمة «نعم » تراهن على الانخراط وتقتضي الضمان ) gage (، أي «نوع من الوعد أو التحالف الأصلي، يقول دريدا، الذي نحن إزاءه في وضعية القبول. أن نقول نعم، فإننا ننخرط في ضمانة، أياً كانت سلبية أو إشكالية الخطاب المترتب عن ذلك 28» .

كلمة «نعم » هي قبل كل شيء أصلية ) originaire (، بحيث كل فعل أو نقاش يتطلب الموافقة الضمنية، وهي بعد ذلك أدائية ) performative (. هذا «القبول » هو دائماً في حالة حركة، ولأنه متحرك داخل نشاط السؤال والجواب أو نشاط الحوار عموماً، فهو يستلزم اللانهائي. هذا ما لاحظه دريدا في قراءته لدو سارتو عندما يستطرد قائلاً: «يشدد ميشال دو سارتو على هذا اللانهائي. يرى فيه «مبدأ عرفانياً ». وهذا المبدأ هو لانهائية «نعم »» . كيف ينبني إذن المبدأ العرفاني على «نعم » لانهائي؟ أو على القبول الأصلي؟ يقوم دو سارتو بمقابلة هذا ال «نعم العرفاني » القائم على أنطولوجيا التلقي مثلما نجد بعض جوانبها عند ابن عربي مع فكرة «القبول » أو «العقل القابل »، وال «لا العلمي » الذي يقتضي تقسيم موضوعاته من وراء مبدأ التمييز. لانهائية «نعم » أو تكراريته تقابلها إرادة ملأ موضوعات القصد وإيجاد مركز ثقل حول الواحد ) .)l’Unique

لكن، في حقيقة الأمر، ال «نعم »، المنغرس في أرض إيجابية أو إثباتية، لا ينفك عن اختراق الحدود عبر اللانهائية التي تميّزه والتي تتعدى التناهي ) finitude (. ال «نعم » ليس نواة صلبة، ولكنه مجال حي ومستمر، مجال يجمع بين «نعم يسوعي » و «أنا الآخر اليهودي ». غير أن دريدا يتساءل حول مغزى هذه الازدواجية: «بين الإثبات اليهودي والإثبات المسيحي، لا يمكننا الحديث عن توافق ولا عن انتساب. لكن ألا تفتح الهوية بين «نعم » اليسوعي و »أنا الآخر » للدغل المتوهّج، هنا أيضاً، حدثاً أو نشوءً ل »نعم » يكون لا يهودي ولا مسيحي، ليس بعدُ وليس فقط أحدهما والآخر؛ هذا لا-لا، ألا يحيلنا إلى بنية مجرّدة لشرط إمكان أنطولوجي أو متعالي، ولكن ل »شبه » أدرجه منذ ذلك الحين )شبه متعالي أو شبه أنطولوجي( والذي يمنح الحدثية الأصلية للحدث للحكاية الأسطورية أو الحكاية المسجَّلة في «نعم » بوصفه أصل كل قول ) 29»؟)fari . اكتشف دريدا هذا ال «نعم » الأصلي، ليس فقط عند هايدغر حيث غدا السؤال عنده ) Fragen ( عبارة عن سماع ) H.ren (، وارتحل نحو الآتي في الآني ) ce qui advient (، أي الحدثي ) l’événementiel (، ولكن أيضاً عند فرانتز روزنتسفايغ ) Franz Rosenzweig ( الذي يجعل ال «نعم » في الأصل، لأنه أصل كل شيء. يكتسب ال «نعم » وضعية أنطولوجية بتماهيه مع الكائن أو الكينونة، عندما يتلاحم ال «لا » مع العدم. يقول روزنتسفايغ: «يُعطي لكل كلمة في القضية حقها في الوجود، ويقترح لها مقعداً يمكنها أن تجلس عليها، تقعد فيه 30» ، لأنها تقعّد به الأقوال والأفعال، تقعّدها بجعلها قواعد وأحكام. ال «نعم » قاعدي لأنه يفتتح الوجود ويتواقت مع الأصل، هو نوع من «الأركي » بالمعنى اليوناني العريق: بداية تأسيسية وسيادة مخوِّلة. «نعم » هو كلمة عندما يُنطق به، لكن ال «نعم » الذي يتحدث عنه دريدا يتعدى العبارة نحو الإشارة، وهو قبل كل عبارة ولغة، لأنه القبلي الأصلي لكل عبارة ولغة يمدّها

بفائض الكلام ولانهائية التعبير: «إنه «قبل » كل لغة، يسجّل المقتضى الأساسي والالتزام أو التعهُّد، ووعد القدوم نحو اللغة، في لغة معيَّنة. هذا الحدث لازم بقوة ال »نعم » ذاته 31» .

دون ربطه بأي قضاء أو قدر، أي دون ربطه بخضوع ما، نتيجة خاصيته التلقائية في الرضى والموافقة والسماع، ال «نعم » الأصلي هو بالأحرى «قبول assentiment( » ( بالمعنى الرواقي للكلمة، يتمفصل مع الإرادة في صيغة المخاطب: «أريدُ volo( » ( التي درسها دو سارتو بإسهاب في قراءته للمعلّم إكهرت 32 ، إرادة لها خاصية أدائية، لأنها خاصية تداولية، تستحضر الأصل في الراهن، هنا والآن، لا في الأزليات السحيقة ولا في السرمديات البعيدة. بهذا المعنى، منح دريدا لهذا ال «نعم » الأركيولوجيا الأصلية بوصفه أساس كل إثبات أو نفي، أساس بُنيت عليه بشكل بارز الأبعاد العرفانية ذاتها القائمة على أنطولوجيا القبول، بما يجيد الوجود من عائدات وواردات يلتطها السمع العرفاني.

المراجع:

1 De Certeau, La fable mystique : XVIe et XVIIe siècle, Paris, Gallimard, 1982, I, p. 411.

2 Derrida, « Nombre de oui » , in : Miche de Certeau, sous la direction de Luce Giard, éditions du Centre Pompidou, 1987.

3 Ibid., p. 191

4 Michel de Certeau et Mireille Cifali, « Entretien, mystique et psychanalyse » , EspacesTemps, n°802002/81-, p. 157

5 Guy Petitdemange, « Michel de Certeau et le langage des mystiques » , Etudes, octobre 1986, 3654/, p. 383

6 « Michel de Certeau, la mystique et l’écriture » . Entretien avec Luce Giard et Jean-Louis Schlegel à propos de la parution du tome II de la Fable mystique, Esprit, août-septembre 2013, p. 156

7 Michel de Certeau et Mireille Cifali, Op. cit., p. 157

8 Michel de Certeau, « Mystique », in : Encyclop.dia Universalis, vol. 12, 1985, p. 874

9 Miche de Certeau, « Mystique », op. cit., p. 874

10 Jacques Le Brun, op. cit., p. 312

11 Michel de Certeau, La fable mystique, I, Paris, Gallimard/Tel, 1982, n. e. 2013, p. 910-

12 Michel de Certeau, « Ecritures » , in : Michel de Certeau, sous la dir. de Luce Giard, Cahiers pour un temps, Centre Georges Pompidou, 1987.

13 Ibid., p. 13

14 Michel de Certeau, La fable mystique, op. cit., p. 411

15 Michel de Certeau, « Ecritures », p. 13

16 Ibid., p. 14

17 Ibid.

18 Michel de Certeau, « Mystique », op. cit., p. 37

19 Jacques Derrida et Pierre-Jean Labarrière, Altérités, avec les études de Francis Guibal et Stanislas Breton, Paris, éd. Osiris, 1986, p. 28

20 Jacques Derrida et Pierre-Jean Labarrière, Altérités, op. cit., p. 31

21 Ibid., p. 32

22 Ibid., p. 91

23 Ibid., p. 92

24 Ibid., p. 35

25 Ibid., p. 38

26 Jacques Derrida, « Nombre de oui », in : Michel de Certeau, op. cit.

27 François Nault, Derrida et la théologie : dire Dieu après la déconstruction, Paris, Les éditions du Cerf, 2000, p. 210

28 Jacques Derrida, Heidegger et la question, Paris, Flammarion/Champs, 1990, p. 115

29 Ibid., p. 195

30 F. Rosenzweig, L’étoile de la Rédemption, cité par Derrida, « Nombre de oui » , op. cit., p. 196

31 Ibid., p. 197

32 Michel de Certeau, La fable mystique, op. cit., p. 228__

مقالات ذات صلة

Search